أحب المصريون القدماء الحياة، ومن هنا كان اهتمامهم بتحنيط الجسد بعد الموت، حتى لا تتحلل أنسجته، وتظل سليمة استعدادا للبعث والحياة الأخرى. وبرع المصريون القدماء في علم التحنيط الذي أصبح واحدا من أهم الفنون التي امتازوا بها، وكان الأساس العلمي الذي اعتمدوا عليه في التحنيط، هو استخلاص ماء الجسم وتجفيفه تماما، حتى لا تتمكن بكتريا التعفن من أن تعيش أو تتغذى عليه.
ودخل التحنيط مع مرور الوقت إلى صلب العقيدة الدينية للمصريين، الفراعنة، إلى إبادة الروح التي كان يجب عليها أن تعود إلى الجسد من جديد، لكي تتغذى من القرابين.
المراد بتحنيط الموتى هو حفظ جثث الموتى بواسطة مواد كيميائية معينة تحفظ جسم الإنسان و تجعل الجسم يحافظ على مظهرة جتى يفى بمتطلبات بعض طقوس الديانة المصرية القديمة التى تؤخر الدفن لعدة أيام , أو ليستطيع الجثمان تحمل مشقة النقل عندما ينقل الجثمان لمدفنه البعيد المُعد مسبقاً ، و لذلك ظهر التحنيط حتى يمنع تعفن الجثة.
يبدأ فى تلك المرحلة سؤال يطرح نفسة و هو : كيف إكتشف المصرى القديم التحنيط ؟؟
تكمن الإجابة على السؤال السابق فى أن المصرى القديم ترك الجثة فوق الرمال الحارة التى تغطيها آشعة الشمس فوجد أن الجثة لا تتحلل سريع
وبينما كانت في عصور ما قبل التاريخ تعتمد على ملامسة الجسد لرمال الصحراء، باعتبار تلك العملية كافية لإحداث التجفيف، إلا أن الأمور سرعان ما تطورت، بالتوصل إلى أسرار التحنيط التي تستهدف الحفاظ على الجسد سليما بعد الموت.
عُرف عن العقيلية المصرية القديمة العلم و التقدم ، فقد كان المصريون القدماء أول من مارس الطب على أسس سليمة ، كما برعوا فى التحنيط إلى حد الإعجاز و مازال العالم الحديث بالرغم مما وصل إليه من تقدم إلا أنه يعجز عن إكتشاف سر التحنيط أو المواد التى أُستخدِمت فيه بدقة ، فلقد حتمت العقائد الدينية فى مصر القديمة حفظ جسد المتوفى و حياتة و إبقائة على شكلة ، حتى يتسنى للروح التردد علية فى مقبرتة ، و أن يعود الى الحياة الحسية مرة أخرى.
و سرعان ما يطرق الى ذهنك أن تحنيط الموتى من الأسرار الغامضة المحيرة التى إشتهرت بها مصر القديمة , فلماذا بذل مثل هذا المجهود لحفظ الأجسام التى خرجت منها الروح لالالف السنين ؟.
السبب هو أنهم لم يعتبروا الموت هو النهاية ,و إنما هو رحلة خطرة تتناثر خلالها شتى العناصر المكونة للشخص الحى , فيما يحتفظ كل منهما بتكاملة الفردى , فإذا أمكن إعادة إتحادها و وضعها فى الجسم ثانية ، أمكنه ذلك أن يعود الجثمان لحياة جديدة مشابهة جداً للحياه التى قضاها على الأرض ، و مع ذلكك و لتحقيق هذة النتيجة يجب حفظ الجسم الذى هو أضعف كل هذة العناصر و أكثرها عطباً ، فاذا ترك الجسم ليتعفن , ضاع كل أمل فى إتحاد القوى الحيوية و هيكلها الجسدى فى العالم الآخر , فيُحكم على الروح بأن تظل تبحث عبثاً الى الأبد عن جسم لم يعد لة وجود
وولد علم التحنيط في “مصر” على يد الكهان الذين قاموا بأولى تجاربهم في هذا المجال بوضع النطرون على الأجسام وهي محبوكة في أكفان، أو بلف الجسم في رباطات مشبعة بالراتنج، وكانت تلك العملية تشير إلى أن الذين قاموا بها لا يزالون غير متمكنين من وسائلها، وهو ما تكشف عنه بعض المومياوات التي ترجع إلى عصر الدولة القديمة، وكثير منها في حالة حفظ سيئة.
وبرع المصريون القدماء في علوم التحنيط مع بداية الدولة الوسطى، حيث تشير المومياوات التي ترجع إلى هذا العصر، إلى أسلوبهم الفريد في التحنيط، حيث تمت معالجتها بالراتنج، وتحنيطها بتأنق، لكنها كانت دائما في حالة هشة، ما يعني أن التحنيط لم يبلغ حينذاك أوج عظمته.
ومع بداية الدولة الحديثة تدفقت العطور الآسيوية على السوق المصرية، ليصبح هذا العصر هو عصر الإبداع في فنون التحنيط، وهو ما تجلى في العديد من المومياوات الجميلة التي عثر عليها، وكانت في حالة طيبة للغاية، إذ لم يسود جلدها إلا بمقدار.
وظلت الطرق التي ابتدعها محنطو “طيبة العهد الروماني، عندما استبدلت بها طريقة حاسمة النتائج، لكنها خشنة وهي نقع الجثث في القار وهو يغلي.
وظلت “الدفنات” الأكثر تميزاً قاصرة على الملوك وعائلاتهم، ومن بعدهم الكهنة وكبار الموظفين، لكن البسطاء من المصريين لم يعدموا حيلة، إذ قام هؤلاء الناس الذين لم يكن باستطاعتهم أن يحصلوا على دفنات متميزة، بتكليف أعضاء من عائلاتهم، بأن يجهزونهم بالحد المعقول من التحنيط، الذي كانت عملياته تستغرق نحو سبعين يوماً، حيث كان جسد المتوفى ينظف ويطهر لكي يبدأ رحلة العالم الآخر.
لقد ظل التحنيط فى بادىء الامر مقصورا على الملوك والطبقات الغنية ، ولكن عرفت واستعملت اخيرا طرق اخرى للتحنيط ابسط وارخص بحيث تمكن الفقراء من ان يستفيدو من بعض العمليات الحافظه لجثثهم وخصوصا عملية التجفيف بالنطرون ، وان يكون لديهم هم الاخرون امل الحصول على الحياه الابدية .
والاشاره الوحيده المعروفه لدينا حتى الان لاى وصف قديم لطرق التحنيط هى الفقرات القليله التى ذكرها كل من هيرودوت وديودورس ، وهما المؤرخان الوحيدان اللذان تركا لنا بعض البيانات عن هذه العملية اذ ان النصوص المصرية القديمة - كما هو معلوم حتى الان - لا تحتوى على اية تفاصيل عن طرق التحنيط .
واقدم وصف تفصيلى هو الوصف الذى ذكره هيرودوت الذى رحل الى مصر حوالى منتصف القرن الخامس قبل الميلاد (460 ق.م)
وبناء على ما ذكره هيرودوت استخدمت ثلاث طرق مختلفة للتحنيط :
الطريقه الاولى :
وهى اغلى الطرق ثمنا ، وفيها يستخرج جزء من المخ بطريقه اليه ويستخرج الباقى بواسطة العقاقير (ولكن طبيعتها غير مذكورة) وتستخرج محتويات البطن (ويحتمل ان يكون المعنى المقصود ان تشمل هذه ايضا محتويات الصدر فيما عدا القلب ، ولو ان هذا لم يذكر بالتحديد) وتغسل الاحشاء المستخرجه بعرق النخيل والتوابل ثم يحشى التجويف بالمر والقرفة ومواد عطرية اخرى (انواعها غير مذكوره) عدا بخور اللبان ، وبعد ان يخاط شق التحنيط كانت الجثه تعالج بالنطرون ثم تغسل وتدثر فى لفائف كتانية كانت تلصق بعضها ببعض بالصمغ .
الطريقه الثانية :
وفيها كانت الجثه تحقن بزيت الارز عن طريق الشرج ثم تعالج بالنطرون .
الطريقه الثالثه :
وهى ارخص الطرق الثلاث وقد اختارتها الطبقات الفقيره ، وتتضمن غسل الجثة والاحشاء بواسطة حقنه شرجية ، ثم يلى ذلك المعالجة بالنطرون .
** شرح مراحل التحنيط **
مما سبق يمكن اجمال خطوات التحنيط فيما يلى :-
غسل الجسد وتطهيره
اعتقد قدماء المصريون أن الشمس تبقي في النهار حية ويكسوها اللون البرونزي و الأصفر وأنها تموت في الغرب ويكسوها اللون الأسود في الليل و قبيل شروقها التالي تغتسل في بحيرة في شرق السماء تسمي بحيرة ايارو حتى تتخلص من اللون الأسود.
الادوات المستخدمة بالتحنيط
1- استخراج المخ من الجمجمة بالشفط عن طريق الانف باستعمال الازميل والمطرقة للقطع من خلال الجدار الانفلا وبعد ذلك يسحب المخ من خلال فتحة لانف بسنارة محماة ومعقوفة
2- استخراج احشاء الجسد كلها ما عدا القلب (( مركز الروح والعاطفة )) وبذلك لا يبقى فى الجثة اية مواد رخوة تتعفن بالبكتريا اما بالفتح او حقن زيت الصنوبر فى الاحشاء عن طريق فتحة الشرج
3- يملى تجويف الصدر والبطن بمحلول النطرون ولفائف الكتان المشبعة بالراتنج والعطور وهى جميعا مواد لا يمكن ان تكون وسط للتحلل والتعفن بالبكتريا
4- تجفيف الجسد بوضعه فى ملح النطرون الجاف لاستخراج كل ذرة مياه موجودة فيه واستخلاص الدهون وتجفيف الانسجة تجفيفا كاملا
5- طلاء الجثة براتنج سائل لسد جميع مسامات البشرة وحتى يكون عازل للرطوبة وطاردا للاحياء الدقيقة والحشرات فى مختلف الظروف حتى لو وضعت الجثة فى الماء او تركت فى العراء
6- فى احد المراحل المتقدمة من الدولة الحديثة تم وضع الرمال تحت الجلد بينه وبين طبقة العضلات عن طريق فتحات فى مختلف انحاء الجثة وبذلك لكى تبدوا الاطراف ممتلئة ولا يظهر عليها اى ترهل فى الجلد
7- استخدام شمع العسل لاغلاق الانف والعينين والفم وشق البطن
8- تلوين الشفاه والخدود بمستحضرات تجميل
9- لف المومياء باربطة كتانية كثيرة قد تبلغ مئات الأمتار مدهونة بالراتنج يتم تلوينها باكسيد الحديد الاحمر ( المغرة الحمراء ) بينها شمع العسل كمادة لاصقة
وفيما يلى كشف شامل للمواد التى ذكر هيودوت وديودورس انها قد استخدمت فى عملية التحنيط ، وبعض المواد الاخرى التى ذكر بلينى ان المصريين قد استخدموها لهذا الغرض ، والمواد التى وجد فى العصر الحاضر ان لها علاقه بالموميات :
شمع النحل - القار - الكاسيا (نوع من القرفه) - زيت الارز - سدرى سوكوس - سدريوم - القرفه - الصمغ - الحناء - حب العرعر - الجير الحى - النطرون - الدهانات - البصل - عرق النخيل - الراتنجيات - (وتشمل الراتنجيات الصمغية والبلسمات) الملح - نشارة الخشب - التوابل - قطران الخشب .
كانت الاعضاء توضع فى أواني سميت بالأواني الكانوبية التي كانت تتخذ شكل الأربع أبناء لحورس وهم:-
"إمست " IMSET و"حابي" HAPY و"دواموتف" DAAMTEF وقبح سنوف .
قال "هيرودوت" أن المصرى القديم قام بالتحنيط من أجل حفظ الجثث من أن تنهشها الوحوش والحيوانات آكلة الجيفة.
قال "ديودور الصقلى" إن قدماء المصريين عرفوا التحنيط بمقتضى عقائد دينية و بمقتضى إعتقاد المصريين و إيمانهم بأنه بعد مضى ثلاثة أو أربع آلاف سنة ستقوم ثوره روحيه عارمة فى العالم تعود بعدها الأرواح إلى أجسادهم التى ستعود بدورها للحياه الأبدية , فأرادوا بالتحنيط حفظ هيكل الإنسان ليكون صالحاً إلى عودة الروح فية كما كان فى نشأتة الأولى.
قال "فولني و باريسي" أن من البواعث علي التحنيط الإحتياط لمنع إنتشار الأمراض المعديه مثل الطاعون , وهى الأمراض التي تنشأ غالباً من تعفن الجثه , فتنتقل في تموجات الهواء الفاسد , و تسري جراثيمها إلى الأصحاء فتضر بالمجتمع الانساني من حيث لا يشعر.
و أكثر ما يطمئن إليه العقل من هذه الآراء هو أن التحنيط من لوازم العقائد الدينيه التي في سبيلها تحملوا المشاق , و تكبدوا أخطارها بإرتياح قلبي و إنبعاث دائم , فتعمق الكهنه في بحثهم فى هذا المجال حتي وصلو إلي أحكام أعمالهم و سبل إتقانها ، و ساعدهم جفاف الجو و يبوسة الأراضي والرمال في تجفيف الجثث المعرضه للهواء التي لم يستطع ذووها دفنها في هياكل شامخه أو مباني ضخمه.
وكأن الكهنة أرادوا تهيئة الأرواح عند عودتها إلى أشبه ما كانت عليه فى الحياه الفعلية سابقاً بل أكثر من ذلك فقد قاموا بتزيين الموتى وتوابيتهم بحلى و زخارف و ألوان و عطور ثمينة حتى يسهل على الروح التعرف على جسد صاحبها وهو فى صورة جيدة ولكى تسعد بما يظهر عليه من ألوان وجمال وتعود بذلك الروح للجسد فى سعادة وإطمئنان وممتلئة بالبهجة.
يقول "لوكاس" في كتابه عن التحنيط إن البدايه التاريخية لهذا العلم مجهوله و ربما ترجع إلى العام 2700 ق.م ، كما تدل عليه الجثه المحنطه المحفوظه بمتحف كليه الجراحين الملكية بلندن و التي يعود تاريخها الي الأسره الخامسه من عهد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق