السبت، 7 فبراير 2015

ماتشو بيشو..المدينة الضائعة وسط السحاب



24 يوليو 1911 اكتشف المستكشف الأمريكي هيرام بينغهام أطلال مدينة ماتشو بيتشو القديمة المغطاة بغابات استوائية كثيفة والمثير أنه تم اكتشاف هذه المدينة بالصدفة، عندما كان يبحث عن آثار الإنكا التي دمرها الأسبان، وبعد تسلقه لجدار جبلي محاطا بصخور كثيرة وغير واضح من الوادي وكان المدخل قد سد بزلزال قبل سنوات طويلة. رأى الجدران وهي مغطاة بالأوراق والمنازل منسقة بعناية مما دل على أن مدينة كبيرة قامت في هذا المكان ليكتشف هذه المدينة المخبأة وسط السحاب بتنظيمها وبنائها البديع .

مدينة تقبع بين السحاب على ارتفاع 2438متر



مدينة تقبع بين السحاب




لا احد يعلم على وجه الدقة من أين أتى الانكا (Inca ) فقد ظهروا فجأة في القرن الثاني عشر الميلادي ليؤسسوا مملكة قوية مركزها البيرو و عاصمتها مدينة كوزكو دين.


إمبراطورية الانكا كانت تحفل بالعجائب و الأسرار و ربما يكون سقوط الإمبراطورية السريع و المدوي هو بحد ذاته اكثر هذه العجائب اثارة للدهشة , فحفنة من الغزاة الاسبان يبلغ عددهم 168 رجلا مع 28 حصانا و مدفع واحد  استطاعوا هزيمة جيوش الانكا الجرارة  التي تقدر بعشرات الالاف و تمكنوا خلال فترة قصيرة بقيادة فرانشسكو بيزارو (Francisco Pizarro ) من احتلال اغلب اراضي الامبراطورية بعد ان اسروا الامبراطور و قتلوه , و مع ان تفاصيل الغزو هي أوسع من ان نتناولها في هذه المقالة الموجزة الا انه ينبغي ان ننوه بأن بعض الأحداث المدمرة و المأساوية التي تواكب حدوثها مع وصول الغزاة الاسبان كان لها دور كبير في اضعاف الانكا و هزيمتهم و لعل اهمها و اكثرها تأثيرا هو وباء الجدري (3) الذي انتشر في الإمبراطورية و حصد نسبة كبيرة من السكان , كما تصادف وصول الغزاة مع حرب اهلية دموية بين اثنين من أمراء الانكا بسبب النزاع حول عرش الامبراطورية , كما ان اسلحة الاسبان النارية و تحالف العديد من القبائل المحلية المعادية للأنكا معهم لعبت دورا كبيرا في هزيمة جموع الانكا المسلحين بالفؤؤس و أدوات الحرب البسيطة و الذين عجزوا من التغلب على تكتيكات الاسبان العسكرية الحديثة.


سيطر الاسبان خلال سنوات قليلة على اغلب اجزاء امبراطورية الانكا و عمدوا منذ بداية احتلالهم الى تدمير ثقافة و مقدسات الانكا فاجبروهم على تغيير دينهم و لغتهم و ارسلوا رجالهم للعمل في مناجم استخراج المعادن الثمينة التي اخذت السفن الاسبانية تنقلها بالأطنان الى بلاط شارلز الاول في اسبانيا , كان على كل عائلة من الانكا ارسال احد افرادها للعمل في مناجم الموت حيث كان في العادة يفارق الحياة خلال سنة واحدة نتيجة سوء التغذية و الأمراض و العمل المضني و عند موته كان على عائلته إرسال فرد ثاني ليحل محله , لقد كان هم الغزاة الوحيد هو الذهب و الفضة و لم يهتموا ابدا لحياة شعب الانكا فعاملوا الناس بقسوة منقطعة النظير و كانوا السبب الرئيسي في انخفاض عدد السكان خلال سنوات قليلة بنحو 60 – 90 % .


خلال العقود التي تلت سقوط إمبراطورية الانكا و انحلالها انتشرت الكثير من القصص و الأساطير حول الملاذ الأخير للأنكا في المدن الضائعة , و قد حاول الأسبان و غيرهم من الطامعين بالكنوز الوصول الى هذه المدن الأسطورية لكن بدون جدوى حتى ظن الكثيرون بأنها مجرد خرافات لا أساس لها من الصحة , لكن أحفاد الانكا الساكنين في الوادي المقدس (Urubamba Valley ) كانوا يعلمون بأنها حقيقة و قد كتموا سرها لقرابة الأربعة قرون حتى عام 1911 عندما قام صبي محلي في الحادية عشر من العمر بأرشاد احد الباحثين الأمريكان و اسمه هيرام بنغهام الى أطلال ماشو بيشو (Machu Picchu ) الواقعة على ارتفاع 2430 متر فوق قمة احد الجبال المحيطة بالوادي المقدس و قد كانت المدينة عند اكتشافها مغطاة بالكامل بالأحراش و الأدغال التي يرجع لها الفضل في اخفائها عن العيون لقرون طويلة رغم مسافة الخمسين ميلا القصيرة التي تفصلها عن عاصمة الانكا كازكو و التي اصبحت فيما بعد مقر حكومة الاسبان , و في عام 1912 عاد بنغهام الى المدينة مرة اخرى مع بعثة تنقيب ممولة من جامعة يايل الامريكية و تمكن من العثور على الكثير من القطع الاثرية التي نقلها معه الى الولايات المتحدة ثم تحولت فيما بعد الى محل نزاع بين الحكومة البيروية التي تدعي بأن بنغهام اخذ القطع الاثرية على سبيل الاستعارة و بين جامعة يايل التي ترفض اعادة القطع و تدعي بأنها من حقها و ان بنغهام اخذها بموافقة الحكومة البيروية.


سرعان ما بدأت المدينة تثير اهتمام الناس حول العالم فتوافد اليها الكثير من المنقبين و علماء الاثار الذين خمنوا تاريخ انشائها بحوالي عام 1462 و اعتقدوا بأنها كانت مدينة مقدسة تسكنها كاهنات اله الشمس و ذلك بسبب العظام التي عثر عليها في مقبرة المدينة حيث كان اغلبها تعود لنساء الا ان المسح الحديث لهذه البقايا البشرية دحض هذه النظرية لأكتشافه بأن عدد البقايا العظمية للرجال مساوية تقريبا لتلك العائدة للنساء , و هناك بعض الباحثين يظنون ان المدينة كانت مركزا اقتصاديا و اخرون يعتقدون بأنها كانت سجنا فيما ذهب فريق اخر الى انها كانت مركزا للرصد و تحديد التواريخ في تقويم الانكا , لكن الرأي الراجح اليوم هو ان المدينة كانت من ضمن ممتلكات الامبراطور و كان لها دورا ديني بسبب موقعها المطل على الوادي المقدس للأنكا و من المحتمل ايضا انها كانت تستخدم للرصد و لتحديد التواريخ لأن العلماء اكتشفوا فيها منصة حجرية ضخمة تشبه الساعة الشمسية الحجرية و تتعامد الشمس فوق العمود الحجري الموجود في وسطها مرتين في السنة بشكل كامل بحيث لا تترك أي ظلال.



هناك حوالي 140 بناية في المدينة تضم معابد و حمامات و قصور و بيوت سكنية و قد بني اغلبها بواسطة صخور الغرانيت التي أبدع الانكا في استخدامها في تشييد ابنيتهم بدون استعمال الملاط حيث كانوا يقومون بتركيب هذه الصخور مع بعضها بصورة دقيقة تثير الإعجاب فيقطعوها الى أشكال متطابقة تتداخل مع بعضها بحيث لا تترك اي فراغ بينها و هذه الطريقة تعتبر أكثر فعالية في مواجهة الزلازل التي يكثر حدوثها في إمبراطورية الانكا من الجدران المبنية بالملاط التي تتهدم بسرعة و ككتلة واحدة , و قد أصبحت هذه الجدران لغزا أخر من الغاز الانكا التي عجز العلماء عن حلها , فبعض الصخور الضخمة المستعملة في تركيب الجدران يتجاوز وزنها الخمسين طنا و نقل هكذا صخور بدون استخدام العجلات و حيوانات النقل كالخيول يبقى معضلة يصعب حلها و فهمها رغم العديد من النظريات التي حاولت تفسيرها و قد اصبحت هذه الصخور دليلا و حجة لدى البعض من مروجي نظريات قوى ما وراء الطبيعة الذين ادعوا ان الانكا كانوا يستعملون الات متطورة مجهولة في عملهم او انهم كانوا على علاقات مع مخلوقات فضائية متطورة (4) , و في الحقيقة ان الكثير من الغموض الذي يحيط بحضارة الانكا سببه عدم وجود لغة مكتوبة لديهم رغم انهم كانوا يستعملون طريقة غريبة لتدوين حساباتهم تقوم على عمل مجموعة من العقد على خيوط مصنوعة من وبر حيوان اللاما و الارجح انها كانت وسيلة للحساب و ليست لغة مكتوبة.


كانت مدينة ماشو بيشو تعتمد في الحصول على الماء على الينابيع القريبة منها و التي ينقل مائها الى جميع ابنية عن طريق شبكة من القنوات الحجرية ,  كما كانت تعتمد في غذائها على المحاصيل التي كانت تزرع فوق المصاطب الحجرية الاصطناعية المحيطة بالمدينة و التي كانت تساهم ايضا في منع انجراف التربة.

و يعتقد العلماء ان المدينة تم هجرها كليا في اواسط القرن السادس عشر أي قبل وصول الغزاة الاسبان الى المنطقة بفترة قصيرة و يرجحون ان السبب وراء ترك المدينة هو اصابة سكانها بوباء الجدري الذي قضى على نسبة كبيرة منهم و نتيجة لذلك فقد هجر الناس المدينة و نسوها لقرون طويلة بقت خلالها مختبئة عن عيون العابثين.


اليوم يتم الوصول الى المدينة بواسطة طريق قديم يصعد من الوادي و تستغرق الرحلة مشيا على الاقدام 2-4 ايام و قد ساهم طول الطريق و عدم وجود وسائل نقل حديثة في قلة عدد السياح و لذلك حاولت الحكومة البيروية في الاونة  الاخيرة  بناء جسر يسهل وصول الزوارالى المدينة و بناء فنادق و منتجعات فيها الا ان هذا المشروع جوبه بمعارضة شديدة بسبب الخوف من ان يؤدي ازدياد عدد السياح الى تدمير الاثار.

يبقى ان نذكر ان مدينة ماشو بيشو هي من ضمن الاثار المدرجة في قائمة التراث العالمي لليونسكو كما تم انتخابها كإحدى عجائب الدنيا السبع الجديدة عام 2007.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق